أفتح رئتيّ لذلك الهواء الغريب اللافح، فلا أتلقى منه سوى رائحة الخواء . . خرجت إلى تلك البرية هاربة مني، من نفسي التي أعرفها، لا أريد سوى لقاء نفسي التي لا أعرفها، أو لقاء ما يشبهني مما لست أعرف .
غريب أنني لا أشعر بعد بأي فارق بين أدغال الخرسانة التي هجرتها وذلك المدى المترامي أمامي لا أكاد أبصر نهايته !
تحررت من كل شيء يثقلني وأتيت إلى هنا، و مازلت أشعر بنفس الثقل..
ربما كان ما يثقلني هو أنا ! لو لم تكن لتلك الرحلة الصحراوية فائدة إلا هذا الاستنتاج لكنت راضية .
أنا من تشد وثاق نفسها إلى ثقيل المشاعر، و حتى تلك الشجرة العجيبة ذات اللونين التي تتلألأ أمامي في ضوء الشمس بباهر التحول بين الأخضر والذهبي، و في نور القمر و كأنها شجرة عيد الميلاد . . حتى تلك الشجرة العجيبة لا تحرك فيّ ساكنًا .
فإذا كففت عن تسلق الأشجار بنظراتي، و صوبت عيني نحو الأرض، وجدت الأرض التي أحسبها ساكنة تضطرم بالحياة . . و تحمل دوابها من ألوان الجبال و السماء و الأشجار من حولي . . أنا فقط الرمادية الدخيلة على تلك الجنة الأرضية !
و يبدو أنها لا ترحب بي كما كنت أتمنى، فواحدة من النملات العملاقة قررت الترحيب بي بطريقتها الخاصة فلدغتني بحقد !
إشارة ترحيب غريبة، أو ربما هي صرخة في وجه من لا يسمع كي يرحل و يعود من حيث جاء .
كدت أتلقى صيحة الاستهجان النملية تلك و أحمل حقيبتي التي لم تزل مغلقة على ما فيها و أرحل، لولا أن أخرجتني من حرج مشاعر الضيف الثقيل صيحة صديقتي صاحبة دعوة المجيئ، و دعتني لصحبتها في رحلة الصعود إلى جبل قريب .
أمرها عجيب ! لا أعلم لمَ قد يولع إنسان عاقل بتسلق الجبال ! . .
هذا أمر قد أقبله من الرجال . . هم من لديهم هذا الهوس بغوص غمار تلك المخاطر، ولكن ما شأني أنا أو شأنها بقمة جبل رأيته فهالني ارتفاعه !
سألتها كم سيستغرق صعوده من وقت
فقالت : ساعتان أو ثلاث على الأكثر .
ساعتان أو ثلاث ! هذا يعني _ بالنسبة لي _ خمس ساعات على الأقل ! و ربما أكثر، هذا إذا لم أتعثر و أهشم كل عظمة في جسدي أثناء الصعود .
تملكني غضب مديني لم يأتني منذ جئت إلى هنا، و صحت بصديقتي : الساعة الآن الخامسة مساءا ! هل تريدين مني تسلق الجبال ليلا ؟! هل جننتِ ؟!
ضحكت من غضبتي، و كادت تمزح، إلا أن ملامحي القلقة جعلتها تعدل عن هزلها و توافق على اقتراحي بتأجيل تسلق الجبل للصباح .
نحيت عصا التسلق المعدنية جانبا، وانهمكت معها في حديث طويل، انتهى بإعدادنا طعام العشاء ثم تناوله، ثم سألتني الخروج من غرفتنا المشتركة و الاختلاط مع بقية الناس في هذا المعسكر الجبلي . . و انبرت تقص عليّ قصص رواد المعسكر و تصفهم لي وتحذرني من بعضهم، حتى شعرت بأنني أعرفهم .
في النهاية وافقت على مضض، و خرجت معها .
خليط عجيب من البشر من جنسيات كثيرة . بعضهم باحث عن الهدوء أو هارب من شيء ما مثلي و بعضهم هاو لتسلق الجبال أو للمشي و اكتشاف الدروب و المسالك و بعضهم هادئ لا يفصح ظاهره عن باطنه و هولاء هم الأقدم هنا و الأدوم إقامة . . هذا ما تفعله الصحراء بالناس إذن !
تقدمت صديقتي من جمع منهم يلتف حول طاولة خشبية كبيرة، و بابتسامة قدمتني لهم و قدمتهم لي، فتعارفنا و جلست و صديقتي نسامرهم بلغتنا مرة و بالإنجليزية مرات، حتى تجاوزنا منتصف الليل، فاعتذرت صديقتي منهم و انصرفنا لحجرتنا كي ننام .
خرجت من المعسكر متأبطة ذراع صديقتي، نمشي بهدوء في ظلام يلوثه الضوء الهزيل القادم من مصباح أمام القاعة الكبيرة في منتصف المعسكر، و ننتنشق هواء الجبل فنشهق بنشوة .
كانت حجرتنا على بعد مائة متر على أطراف المعسكر، و كنا نمشي نحوها بتمهل . .
قلت لصديقتي : هيلين . . تلك العجوز الشمطاء .
_ ما لها ؟
_ إنها تكرهني !
_ تكرهك ! و لمَ تكرهك ؟ إنها لا تعرفك .
_ لا أدري . . و لكنها تنظر إليّ بتأفف، و تشيح بوجهها عني كلما تكلمت .
_ ااااااااااااااه
ثم أطلقت صديقتي ضحكة طويلة تحولت لقهقهة عالية، كادت تفقدها توازنها، لدرجة أنها استندت علي ساعدي كي لا يصرعها الضحك . . ثم قالت بصعوبة من بين ضحكاتها : انتظري قليلا حتى ندخل غرفتنا .
واصلت الضحك حتى وصلنا إلى الغرفة و دخلناها، و اتجهت مترنحة نحو فراشها، و صارت تلهث و تكافح من أجل الهواء، فقد أنهكها الضحك و قطع أنفاسها لدرجة أنها ذرفت الدموع . . كل هذا و أنا أراقبها بتحفز . . أرجو ألا يكون ضحكها سخرية مني، وإلا فسوف أحمل حقيبتي وأرحل في الصباح .
قرأت ما في عيني من ترقب فهدأت قليلا، و قالت و هي تتخير ألفاظها بعناية : هيلين لا تكرهك يا حبيبتي . . هي فقط كانت تجلس بجانبك تماما و أزعجها ارتفاع صوتك .
_ ارتفاع صوتي !!
_ نعم يا حبيبتي . . هذا من الأمور التي لم أشأ تنبيهكِ إليها . . قلت لنفسي يومان أو ثلاثة على الأكثر و سوف تلاحظين وحدك .
قلت لها بشرود : ألاحظ ماذا ؟
نهضت و اتجهت نحوي و امسكت يدي برفق تقتادني للخارج و هي تقول : هيا . . سوف أريكِ .
خرجنا من الغرفة، و تقدمنا أمامها أمتار قليلات ثم توقفت صديقتي و أخذت تقلب وجهها ذات اليمين ناحية الجبل الذي نزمع تسلقه غدا، و ذات اليسار حيث الدرب القصير المنحدر المطل على الوادي الفسيح تحت المعسكر . . ثم أشارت لنقطة في قلب الظلام، و قالت : انظري .
نظرت فلم أر أي شيء ! وكدت أعنفها، فضغطت على يدي برفق، و قالت : هناك . . بين الشجرة الكبيرة و الصخرة التي تشبه التفاحة . . انظري جيدا .
نظرت بتمعن . . ثم هتفت بصديقتي و أنا أشير بيدي نحو الشجرة : نعم نعم . . هناك ضوء خافت . . يومض ثم يختفي .
_ هل ترينه الآن ؟
_ لا . . لقد اختفى ! . . ما هذا ؟
_ فلندخل الحجرة اولا و بعدها نتكلم .
عدنا للحجرة و الفضول يكاد يقتلني . . ثم انتبهت، و تذكرت هيلين و ضحك صديقتي و قولها أن هيلين يزعجها صوتي . . ما علاقة كل هذا بالضوء الوامض تحت سفح الجبل ؟!
أشفقت صديقتي على حيرتي فقالت بحنان : الضوء الوامض المختفي هذا يا حبيبتي هو عود ثقاب . . هل تعلمين كم يبعد عنا ؟ حوالي ثلاثة كيلومترات . . أنتِ هنا الآن . . في الصحراء و الجبال . . تخلصي من تبلد حواسكِ و جمودكِ هذا . . هل فهمتِ ؟
_ نعم . . فهمت .
و دون كلمة أخرى استبدلت بثيابي ثياب النوم، و آويت للفراش أحدق في سقف الغرفة المظلمة .
مازالت تلك البيئة تلفظني و تأبى الكشف عن نفسها لي . . أرهف السمع فتقرع مسامعي في الظلام أنفاس صديقتي، هادئا منتظما . . أتجاهله فأسمع حفيف أوراق الشجر أمام الغرفة و دبيب الحشرات على سقف الحجرة الخشبي و صفير الرياح الصيفية الرقيقة .
الأصوات متمايزة و واضحة إلى حد مذهل ! كيف لم أنتبه لها من قبل ؟
كل صوت هنا له دوي كالرصاصة، و كل ضوء له وميض كالبرق .
لو مكثت هنا وقت كاف، ربما أزيل عن روحي أثقالها كما بدأت في إزالة صدأ حواسي و تبلد ذهني .
ربما لو ألقيت السمع أسمع صوتي الذي غاب وسط ما تركت من الصخب والضجيج .
لم أعد معجبة بهدوء الصحراء مثلما كنت منذ ثلاثة أيام . . لم يكن هناك هدوء . . كنت أنا التي لا تسمع .
_ هبة سعيد _